لماذا نعلِّم أطفالنا؟ 

01 يناير  .   7 دقائق قراءة  .    652

تحدثت في مقال سابق ضمن هذه السلسلة عم ماهية التربية، وما قيل في ذاك المقال هو، إلى حد بعيد، كلام عن أهداف التربية. إذا سألنا طبيباً لماذا يمارس الطب، وأجاب أنه يفعل ذلك من أجل المال أو المركز، فمن السهل أن نرى في هذا الجواب شيئاً طارئاً على الطب، وإنْ كان أحد نتائجه. ذلك أنّ هدف الطب الأساسي تحقيق ما أمكن من الصحة الجسدية للمريض. كذلك من الطارئ على التربية أن يجيب المعلّم عن سؤال من هذا النوع أنه يمارس التعليم من أجل المال أو المركز. فلا المال ولا المركز الاجتماعي هما بين الأهداف التي رسمها فلاسفة التربية ومختلف العاملين في الحقول التربوية منذ أقدم العصور. لا بل إنّ هذه الأهداف تحدَّد في ضوء نظرة إلى الإنسان والعالم، كأنْ نقول إنّ الإنسان كائن يحقق ذاته بناءً على إمكاناته ومحدودياته. ويشكّل مفهوم تحقيق الذات الفكرة المحورية لدى عدد من فلاسفة الأخلاق، في مواجهة فلسفات الأخلاق التي ترتكز على فكرة الواجب. ويمكننا إقامة ثلاثة تمييزات أساسية لفهم فكرة تحقيق الذات: القوّة والفعل، الجزء والكل، الوسيلة والغاية. ففي سعيه إلى تحقيق ذاته، لا يسعى المرء إلى وهم غير قابل للتحقيق، بل يسعى إلى نقل ما هو موجود لديه بالقوّة إلى كيان قائم بالفعل. لذلك يجدر بالمرء أن يضع نصب عينيه صورة عن نفسه أمينة لمواهبه وإمكاناته، وأن يعمل على تحقيقها ويعدّلها عندما تدعو الحاجة إلى تعديل. وفي عمله على تحقيق ذاته، يدرك المرء أنه ليس كياناً منعزلاً، بل هو جزء من كل: لا من "كل" واحد، بل من مجموعة "كلّيات". فهو عضو في عائلة وفي مجتمع وفي وطن وفي مؤسسات مهنية وجمعيات وجماعات مختلفة، قد تكون دينية وسياسية وثقافية وما إلى ذلك. الفرد، إذاً، ينتمي لا إلى عالم واحد، بل إلى عوالم. وطالما قام صراع في تجربة كل فرد بين النطاقات المختلفة التي ينتمي إليها. ويجد نفسه مضطراً في بعض الأحيان إلى إعطاء الأولوية لواحد من هذه "العوالم" على الآخر حسب الظرف وسلّم القيم والأولويات لديه. والمهم أنّ تحقيق الذات يحصل في نطاقات متعددة. أما التمييز الثالث، بين الوسيلة والغاية، فيُرينا أنّ هذا المفهوم يكتنفه شيء من النسبية، إذ ما هو غاية أمامنا قد يصير وسيلة لغاية أبعد منه بعد الوصول إليه. وإذا كان الإنسان كائناً على الطريق، فالحياة كلها تبدو، من نقطتها الأخيرة، طريقاً: إنها سعيٌ مستمر إلى تحقيق الذات. ومن أهم ما تقتضيه المبادئ الخُلقية عدم استعمال الآخرين كوسائل في سعي الفرد إلى تحقيق ذاته. فالإنسان غاية على الدوام، ولا يجوز تحويله إلى وسيلة، وإنْ كان هذا واقعاً مرّاً يصدمنا يومياً في الحياة الاجتماعية والسياسية والشخصية.

كثيراً ما قرأنا كلاماً لبعض رجال السياسة والأحزاب عن أهداف التربية، وفي رأسها بالنسبة إليهم خَلق المواطن الصالح. لكنهم غالباً ما يطرقون هذا الموضوع على نحو سطحي، من غير أن يقرأوا، معظم الأحيان، ما كتبه الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع ومنظّرو التربية والعاملون في حقولها المختلفة. ففي حياة الفرد أبعادٌ كثيرة لا يجوز حصرها كلها في بُعد واحد كالمواطَنة. وفي ضوء التمييزات الثلاثة التي أقمناها بالنسبة إلى مبدأ تحقيق الذات، يمكن الكلام عن ثلاثة أهداف للتربية:

  • التربية تجعل الفرد يعي إمكاناته وتطرح أمامه طرقاً مختلفة لنقل هذه الإمكانات من طور وجود بالقوة إلى طور وجود بالفعل.
  •  التربية تعين الفرد على معرفة نفسه ووعي انتماءاته المختلفة. هذا يعني وعيه للأدوار التي يجب أن يؤديها في كل نطاق ينتمي إليه، مع تنمية حس الواجب والمسؤولية لتأدية أدواره على نحو حسَن.
  • التربية تمنح الفرد القدرة على التمييز بين غايات ووسائل، وعلى وضع سلّم أولويات يعتمده عند قيام صراع بين الواجبات وعند ضرورة تعديل النظرة إلى نفسه وعالمه. كما تمنحه القدرة على النظر نقدياً إلى أدواره المختلفة.

طالما وقعنا في الفلسفات التربوية القديمة على تحديد هدف التربية بأنه "سكْب الشخصية في قالب معين". هذا يعني أمرين على الأقل: الأول اعتبار المادة التي تُعلَّم محوَر العملية التربوية وغايتها، والثاني اعتماد التلقين طريقةً لنقل هذه المادة. والمؤسف أنّ هذا النوع من الفلسفة التربوية ما يزال الأساس الذي ترتكز إليه التربية في أماكن كثيرة حول العالم، ولا سيما في البلدان التي تقوم أنظمتها السياسية على أيديولوجية شمولية، تَختصر كل أهداف التربية في نقل عقائدها الى المواطنين من جيل إلى جيل. إلا أن التربية الحديثة ثارت على هذه النظرة. وإذا حللنا فعل "علَّمَ"، لوجدناه يتعدّى إلى مفعولَين: التلميذ الذي يعلَّم والمادة أو المواد التي تعلَّم. والأحرى أن يكون التلميذ غاية التربية والمادّة وسيلتها. لكن التربية التقليدية، خصوصاً تلك التي تشرف عليها أنظمة حكم توتاليتارية منغلقة، تنظر إلى المادّة كغاية وإلى التلميذ كوَسيلة. وغالباً ما يؤدي هذا إلى إهمال نموّ الأطفال النفسي والعقلي في مراحل الدراسة المختلفة. ومع هذا، كما قلنا، تُعتمَد طريقة التلقين في التعليم، التي تقوم على الذاكرة. ولئن كان من الضروري تنمية الذاكرة، لكن لا يجوز أن يحصل هذا الأمر على حساب الذكاء والتفكير النقدي والمواهب الفردية. أما التربية الحديثة فتعطي أهمية للفرد والمادة كليهما، علماً أن المادة هي الوسيلة والفرد، أي الشخصية الإنسانية، هي الغاية.

نموّ الشخصية الذي تسعى إليه التربية الحديثة متعدد الأبعاد، بمعنى أنه لا يقتصر على الناحية الذهنية، بل هو جسدي وعقلي ونفسي واجتماعي وخُلقي. ولا تنفصل هذه القوى في الشخصية السليمة بعضها عن بعض، بل هي مترابطة. لذلك كان لا بد من أن تكون التنمية عبر التربية عملية متكاملة. وهذا التكامل يجب أن يلازم شرطَي السعة والعمق في المواد التعليمية. فالثقافة تكون سطحية إذا حصل النمو عن طريق مواد تتميز بالسعة دون العمق، أي بعدد الكتب والنظريات الملقَّنة بعيداً عن التفكير النقدي. لكنّ ثقافةً من هذا النوع لا تمتد عمقاً، وبهذا تَخذل غرض الثقافة الحقيقي الذي هو العمق. ولعل أهم صفات العمق تَحوُّل العلم إلى ثقافة، أي إلى قوة لا تَقتصر على الحاضر بل تَخدم في المستقبل. والعلم الذي لا يمتد إلى المستقبل هو عبءٌ على الذاكرة. ومن أجل أن تلبّي التربية هدف تحقيق الثقافة المتصفة بالعمق الى جانب السعة، من الضروري أن تركّز على معنى المادّة التي تعلَّم وأهميتها وقيمتها والحاجة إليها وعلاقتها بالمواد الأخرى. وكم من تلميذ نسيَ ما تعلّمه فور مغادرته قاعة الامتحان، لأنّ المطلوب منه كان الحفظ بعيداً عن الفهم. الثقافة هي ما يدوم بعد نسيان التفاصيل، ويغدو جزءاً من الشخصية.

  0
  2
 0
مواضيع مشابهة

01 يناير  .  7 دقائق قراءة

  2
  2
 0

05 مايو  .  1 دقيقة قراءة

  1
  7
 0

01 يناير  .  6 دقائق قراءة

  4
  3
 0

16 مايو  .  1 دقيقة قراءة

  0
  4
 0

17 فبراير  .  2 دقيقة قراءة

  2
  10
 1
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال